فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: هو عذاب الآخرة، وتضمنت هذه الجملة التهديد والزجر والوعيد كما تقول: اصنع ما تشاء فسيأتيك الخبر، وعلق التهديد بالاستهزاء دون الإعراض والتكذيب لتضمنه إياهما، إذ هو الغاية القصوى في إنكار الحق.
وقال الزمخشري: وهو القرآن أي أخباره وأحواله بمعنى سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وسيظهر لهم أنه لم يكن موضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته؛ انتهى.
وهو على عادته في الإسهاب وشرح اللفظ والمعنى مما لا يدلان عليه، وجاء هنا تقييد الكذب بالحق والتنفيس ب {سوف} وفي الشعراء {فقد كذبوا فسيأتيهم} لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء، فاستوفى فيها اللفظ وحذف من الشعراء وهو مرادًا حالة على الأول وناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس، فجاء بالسين والظاهر أن ما في قوله: {ما كانوا} موصولة اسمية بمعنى الذي والضمير في {به} عائد عليها.
وقال ابن عطية: يصح أن تكون مصدرية التقدير {أنباء} كونهم مستهزئين فعلى هذا يكون الضمير في {به} عائدًا على الحق لا على مذهب الأخفش حيث زعم أن {ما} المصدرية اسم لا حرف، ولا ضرورة تدعو إلى كونها مصدرية. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ}.
إن الحق عبارة عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل آية آية منه.
وعبر عنه بذلك إظهارًا لكمال فظاعة ما فعلوا به.
والفاء على تقدير أن يراد بالآيات الآيات التنزيلية كما هو الأظهر على ما قرره مولانا شيخ الإسلام لترتيب ما بعدها على ما قبلها لا باعتبار أنه مغاير له حقيقة واقع عقيبه أو حاصل بسببه بل على أنه عينه في الحقيقة والترتيب بحسب التغاير الاعتباري حيث إن مفهوم التكذيب بالحق أشنع من الإعراض المذكور إذ هو مما لا يتصور صدوره من أحد.
ولذلك أخرج مخرج اللازم البين البطلان وترتب عليه بالفاء إظهارًا لغاية بطلانه.
ثم قيد ذلك بكونه بلا تأمل (بل آن المجيء) تأكيدًا لشناعة فعلهم الفظيع.
وعلى تقدير أن يراد الآيات التكوينية داخلة على جواب شرط محذوف.
والمعنى على الأول: حيث أعرضوا عن تلك الآيات حين إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن لعاقل تكذيبه أصلًا من غير أن يتدبروا في حاله ومآله ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الموجبة لتصديقه.
وعلى الثاني: أنهم إن كانوا معرضين عن الآيات حال إتيانها فلا تعجب من ذلك فقد فعلوا بما هو أعظم منها ما هو أعظم من الإعراض حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات.
واختار في البحر كون الفاء سببية وما بعدها مسبب عما قبلها.
وجوز أيضًا كونها سببية على معنى أن ما بعدها سبب لما قبلها فقد قال الرضي: وقد تكون فاء السببية بمعنى لام السببية وذلك إذا كان ما بعدها سببًا لما قبلها نحو قوله تعالى: {فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34، ص: 77] وأطلق عليها الكثير حينئذ الفاء التعليلية.
وهل تفيد الترتيب حينئذ أم لا؟ لم يصرح الرضي بشيء من ذلك، ويفهم كلام البعض أنها للترتيب والتعقيب أيضًا.
واستشكل بأن السبب متقدم على المسبب لا متعقب إياه.
وتكلف صاحب التوضيح لتوجيه بأن ما بعد الفاء علة باعتبار معلول باعتبار ودخول الفاء عليه باعتبار المعلولية لا باعتبار العلية.
ورد بأنها لا تتأتى في كل محل، وفي التلويح الأقرب ما ذكره القوم من أنها إنما تدخل على العلل باعتبار أنها تدوم فتتراخى عن ابتداء الحكم، وفي شرح المفتاح الشريفي فإن قلت: كيف يتصور ترتب السبب على المسبب؟ قلت: من حيث إن ذكر المسبب يقتضي ذكر السبب انتهى.
وعليه يظهر وجه الترتيب هنا مطلقًا لكن ظاهر كلام النحاة وغيرهم أن هذه الفاء تختص بالوقوع بعد الأمر كأكرم زيدًا فإنه أبوك، واعبد الله فإن العبادة حق إلى غير ذلك فالوجه الأول أولى.
وليست الفاء فصيحة كما توهمه بعضهم من قول العلامة البيضاوي في بيان معنى الآية كأنه قيل: لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا بالقرآن لأن الفاء الفصيحة لا تقدر جواب لما لأن جوابها الماضي لا يقترن بالفاء على الفصيح فكيف يقدر للفاء ما يقتضي عدمها فما مراد العلامة إلا بيان حاصل المعنى ولذا أسقط الفاء نعم قيل: إن هذا المعنى مما ينبغي تنزيه التنزيل عنه وفيه تأمل.
وقد صرح بعض المحققين أن أمر الترتيب يجري في الآية سواء كانت الآية بمعنى الدليل أو المعجزة أو الآية القرآنية لتغاير الإعراض والتكذيب فيها.
والفاء في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} للترتيب أيضًا بناء على أن ما تقدم لكونه أمرًا عظيمًا يقتضي ترتب الوعيد عليه، وقيل: يستهزئون إيذانًا بأن ما تقدم كان مقرونًا بالاستهزاء.
واستدل به أبو حيان على أن في الكلام معطوفًا محذوفًا أي فكذبوا بالحق واستهزؤا به.
ولا يخفى أن ذلك مما لا ضرورة إليه.
و(ما) عبارة عن الحق المذكور.
وعبر عنه بذلك تهويلًا لأمره بإبهامه وتعليلًا للحكم بما في حيز الصلة.
والأنباء جمع نبأ وهو الخبر الذي يعظم وقعه.
والمراد بأنباء القرآن التي تأتيهم ويتحقق مدلولها فيهم ويظهر لهم آيات وعيده وإخباره بما يحصل بهم في الدنيا من القتل والسبي والجلاء ونحو ذلك من العقوبات العاجلة، وقيل: المراد ما يعم ذلك والعقوبات التي تحل بهم في الآخرة من عذاب النار ونحوه؛ وقيل المراد بأنباء ذلك ما تضمن عقوبات الآخرة أو ظهور الإسلام وعلو كلمته، وظاهر ما يأتي من الآيات يرجح الأول.
وصرح بعض المحققين بأن إضافة {أَنْبَاء} بيانية وهو احتمال مقبول.
وادعاء أنه مقحم وأن المعنى سيظهر لهم ما استهزؤا به من الوعيد الواقع فيه أو من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك لا وجه له إذ لا داعي لإقحامه.
وفي البحر إنما قيد الكذب بالحق هنا وكان التنفيس بسوف وفي الشعراء (6) {فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ} بدون تقيد الكذب والتنفيس بالسين لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء فاستوفى فيها اللفظ وحذف من الشعراء وهو مراد إحالة على الأول.
وناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس فجيء بالسين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ}.
الفاء فصيحة على الأظهر أفصحت عن كلام مقدّر نشأ عن قوله: {إلا كانوا عنها معرضين}، أي إذا تقرّر هذا الإعراض ثبت أنّهم كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم من عند الله، فإنّ الإعراض علامة على التكذيب، كما قدّمته آنفًا، فما بعد فاء الفصيحة هو الجزاء.
ومعناه أنّ من المعلوم سوء عواقب الذين كذّبوا بالحق الآتي من عند الله فلمّا تقرّر في الآية السابقة أنّهم أعرضوا آيات الله فقد ثبت أنّهم كذّبوا بالحقّ الوارد من الله، ولذلك فرّع عليه قوله: {فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} تأكيدًا لوعد المؤمنين بالنصر وإظهار الإسلام على الدين كلّ وإنذار للمشركين بأن سيحلّ بهم ما حلّ بالأمم الذين كذّبوا رسلهم ممّن عرفوا مثل عاد وثمود وأصحاب الرسّ.
وبهذا التقدير لم تكن حاجة إلى جعل الفاء تفريعًا محضًا وجعل ما بعدها علّة لجزاء محذوف مدلول عليه بعلّته كما هو ظاهر الكشاف، وهي مضمون {فقد كذّبوا} بأن يقدّر: فلا تعجب فقد كذّبوا بالقرآن، لأنّ من قدّر ذلك أوهمه أنّ تكذيبهم المراد هو تكذيبهم بالآيات التي أعرضوا عنها ما عدا آية القرآن.
وهذا تخصيص لعموم قوله: {من آية} بلا مخصّص، فإنّ القرآن من جملة الآيات بل هو المقصود أولًا، وقد علمت أنّ {فقد كذّبوا} هو الجزاء وأنّ له موقعًا عظيمًا من بلاغة الإيجاز، على أنّ ذلك التقدير يقتضي أن يكون المراد من الآيات في قوله: {من آيات ربّهم} ما عدا القرآن.
وهو تخصيص لا يناسب مقام كون القرآن أعظمها.
والفاء في قوله: {فسوف} فاء التسبّب على قوله: {كذّبوا بالحقّ}، أي يترتّب على ذلك إصابتهم بما توعّدهم به الله.
وحرف التسويف هنا لتأكيد حصول ذلك في المستقبل.
واستعمل الإتيان هنا في الإصابة والحصول على سبيل الاستعارة.
والأنباء جمع نبأ، وهو الخبر الذي بأهميّة.
وأطلق تحقّق نبئِه، لأنّ النبأ نفسه قد علم من قبل.
و{ما كانوا به يستهزئون} هو القرآن، كقوله تعالى: {ذلكم بأنّكم اتَّخذتم آيات الله هزؤًا} فإنّ القرآن مشتمل على وعيدهم بعذاب الدنيا بالسيف، وعذاب الآخرة.
فتلك أنباءٌ أنبأهم بها فكذبّوه واستهزؤا به فتوعّدهم الله بأنّ تلك الأنباء سيصيبهم مضمونها.
فلمّا قال لهم: {ما كانوا به يستهزئون} علموا أنّها أنباء القرآن لأنّهم يعلمون أنّهم يستهزئون بالقرآن وعلم السامعون أنّ هؤلاء كانوا مستهزئين بالقرآن.
وتقدّم معنى الاستهزاء عند قوله تعالى في سورة البقرة: {إنّما نحن مستهزئون}. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)}.
فهذا خروج من الإعراض إلى التكذيب، فالإعراض أمر سلبي، والتكذيب هو الوقوف إيجابيًا في موقف الضد والصد عن سبيل الله، ثم ينتقلون إلى المرحلة الثالثة وهي الاستهزاء. إننا إذن أمام ثلاث مراحل: إعراض، تكذيب، استهزاء. وكل ذلك لعلهم يصرفون المتِّبع عن الاتباع. ومثال ذلك ما ضربه الحق لنا في أمر نوح: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 37- 38].
فقد أوحى سبحانه إلى نوح البلاغ الحق وأمره أن يصنع الفلك تحت عنايته سبحانه وألا يخاطبه في شأن الكافرين الظالمين الذين لم يستجيبوا لدعوة الله ويَشْرَع نوح في إنشاء الفُلْك، ولكن الكافرين يستهزئون به لجهلهم ولعدم الوثوق من الغرض والهدف. ويسخر نوح من كل من يسخر منه.
ومثال آخر وهو انتصار الإسلام بعد أن كان أهل الكفر قوة، ولكن المتكبر الطاغي منهم يأتي بعد صلفه وكبريائه صاغرًا. ومنهم من قتل وأسر وذاق مرارة الذل النفسي. وقد كانوا من قبل يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم. ومثال على ذلك الوليد بن المغيرة، وهو السيد في قومه، يأتي فيه قول الحق: {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 15- 16].
وكان الوليد صاحب ثراء من المال ومنعة وقوة من البنين، وأعرض عن القرآن وسخر منه. فجعل الحق منه أمثولة للناس، وطبع على أنفه علامة لازمة افتضح بها، وكانت سُبّةً له وعارًا لا يفارقه كلما ذكر.
وقد نزل هذا القول في القرآن وقت ضعف المسلمين، ثم يأتي خبر ضربه على أنفه الذي هو محل الأنفة والكبرياء والعنجهية، ثم تأتي بدر ليرى المسلمون تحقيق ذلك، إنه كلام إلهي متحدًى به ومتعبد بتلاوته. وهكذا تصدق كل قضية يأتي بها الله. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} وفى سورة الشعراء: {فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} فانفردت آية الأنعام بزيادة قوله: {بالحق لما جاءهم} وبقوله: {فسوف} من حرفى التنفيس بدل السين فيسأل عن وجه ذلك؟
والجواب والله أعلم: أن آية الأنعام لما ترتبت على إطناب وبسط آيات من حمده سبحانه وانفراده بالخلق والاختراع فقال تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} فذكر سبحانه خلق السماوات والأرض وخلق الظلمات والنور فالظلمات عن أجرام هذه المخلوقات والأنوار عن أجرام ما جعل في السماوات وزينها بها من شمس وقمر وكواكب للقتداء والضياء.
ثم ذكر خلقهم كم طين وقد تردد في الكتاب العزيز تنبيه المكلفين بما صدرت به سورة الأنعام فقال تعالى: {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين} وقال تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا}.
ثم قال بعد آية الأنعام: {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين} فلما تقدم هذا الإطناب ناسبه ما أتبع به من قوله تعالى: {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا يستهزئون} فناسب الإطناب الإطناب.
وقال تعالى قبل آية الشعراء: {تلك آيات الكتاب المبين} ثم اعترض بتسلية نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} وليس هذا المعترض به مما ذكروا به ثم قال بعد: {إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} وهذا راجع إلى تسليته عليه السلام فلم يبق مجردا لتذكيرهم سوى قوله تعالى: {تلك آيات الكتاب المبين} وما بعد من وعيدهم وتهديهم بقوله: {وما يأتيهم من ذكر...} الآية، وهذا إيجاز فناسبه ما نيط به من قولهم: {فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} إيجازا لإيجازا وإطنابا لإطناب. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)}.
إنهم أصَرُّوا على الخلافِ مستكبرين، وعن قريب يقاسون وبالَ أمرهم، ويذوقون غِبَّ جُحْدِهم. اهـ.